قصة انا والبئر فقط
اسم القصة: انا والبئر فقط
عدت إلى الديار بعد مرور خمسة عشر عاما ،كل شيء تبدل ..نظرتي لمدينتي ..عدا زمن على اشتياقي الملتاع.. أنا الآن أزور مدينة أخرى لا أمتلك لهفة العائد ... أهذه الشوارع الغابرة التي كانت تطاردني!؟ كأنني لا أنتمي مناخيا لهذه السماء ؛؛..وصلت بي سيارة الأجرة أمام باب صدئ لا لون له، وجدار منزل سيسقط بعد أيام ربما .. ما إن فتحت باب السيارة حتى فوجئت بسرب صغار دخلوا الدار يصيحون (حضر العم السويدي )كانوا ينظرون إليّ وكأنني قادمٌ من كوكب آخر أخذوا حقائبي، بدأت أصافح الكبار والصغار وأسلم على أحدهم مرتين ولا أنتبه للوجوه...أقبّل يد الشيخ والصغير؛ مراسيم التحايا امتزجت ببعضها جلست وإخوتي وأقاربي الكل يسألني .. شيء من التحقيق عن عيشتي هناك كنت أجيبهم فورا.. قد فارقت هذه التقاليد و طرق الرد منذ كنت بعمر السابعة عشر ،لا أود أن أضع أقل انطباعٍ بالكبر أو أفرط بشعور تجاه أحدهم.
استأذنت من الجميع ومضيت لأفرغ توتري بأحضان أختي الكبيرة التي بدات تندب بأشعار شعبية ممزوجة بنعي ونحيب حول فقد الأم، وعزائها الذي لم أشهده؛ لأول مرة منذ عدة سنين أتعرض لحضن حقيقي فيه دفء ورائحة الود ولمسة طمأنينة كانت أم حسن حتى بحياة أمي هي التي اعتنت بي.
: كبرت كثيرا يا عزيز، غادرتنا ولدا صبيا أسمرَ أشعث الشعر. للتو تشكلت ملامحك؛ والآن رجلا وسيما أخشى عليك من الحسد يا نور عيني قالتها وهي تمرر يدها على خدي، ثم أهلت دمعا غزيرا وقالت بصوت لم تستفزه عبرة
: كم تمنت أن تراك ولو لمرة واحدة ولو لساعة قبل وفاتها ،ردّدت اسمك على فراش الاحتضار (من يأتيني بعزيز لساعة ويأخذ باقي أيامي) بكيتُ كالنساء، بل كالأطفال لقد جددت العزاء بعد خمسة أعوام على فقدها.
نحن خمسة أولاد وأربع بنات، نظرات الشوق والترحيب لمحتها بعيني أم حسن و أخي عادل الكبير والبقية كانوا ينظرون بريب شديد وكأني سأحاكمهم، لا أعلم تفسيرا لذلك تجاهلت تجنبهم النظر بعيني. يحاولون إخفاء صفحة وجههم للأبد او يشعرون بذنب لا يغتفر ،لا أذكر كيف ومتى انفضوا من حولي شعرت بأخي يغطيني يبدو أن البكاء واللقاء اتعبني غفوت دون انتباه ، غطاءبسيط ورديء غطاء برائحة طيبة و لكنه قديم بالكاد يصلح مداساً للأرض..لم أهتم فعينَي أخي عطرت قلبي بريح الأبوة ، كان عطوفا ودودا كان ابي يشبهه دوما ب لاوي من إخوة يوسف.
حلّ الصباح في مدينتي لاركض ولا نظام صحي ولكن الكل مجتمعون على سفرة واحدة تذكرت طاولتي وكرسي وحيد لايشاطرني إفطاري أحد، لو قمت بالجري في أزقتنا ربما يجدونني في إحدى بالوعات المجاري المفتوحة دوما، عرجت إلى المطبخ لازال كما هو ،حتى أن جدرانه لم تُطلَ ولو لمرة واحدة.. أرضيته محفورة لا طاولة ولاشيء تقريبا ، أين الأموال وآلاف الدولارات التي أرسلتها، أيعقل كلها صرفت على دواء أمي و عملية واحدة فقط لقد نفد نصف عمري وأنا عامل نظافة في أوروبا ،لم آخذ أي استراحة عملت 16 ساعة، أرسل لهم رزم أموال، لتعمير بيتنا أو شراء جديد او ليعملوا مشاريع..ولكن لا أجد أي أثر لترف ولو بسيط .
عادل: تعال ورحب بعمك ..بالأمس لم يكن هنا.
ذهبت وأنا مسرور لرؤيته ومشتاق وأخيرا سأعانق رائحة والدي..ولكن هو أيضا يلوذ بعينيه بعيدا، فكان سلاما خجولا معقدا بهتت فيه كل حرارة اللهفة عندما أطرق بوجهه بعيدا عني ،بعد السؤال عن أحوالي وهل تزوجت و لماذا للآن لازلت عازبا تريد ان تخطب إحدى بناتي او بنات اعمامك و تأخذها معك ؟..أنا صامت وهو يقدم عروضا ربما هي مغرية لغيري ولكني رافض للزواج ربما حقا فرصة لأتزوج من بنات جلدتي وفق تقاليدنا.
لا يا عم، أمد الله بعمرك لا أتزوج حاليا
: ولمَ عدت!؟ جاء سؤاله هكذا .
:نعم !!!قلتها بصدمة
ارتجفت جفون أخي وحركاته، فقال؛
: عمك كان يتوقع أنك عدت للبحث عن عروس وهو يريد ان يعطيك إحدى بناته...فقلت
: كرمك على رأسي ولكن لا أود الزواج.
بدأت نظراتهم تتقاتل...يوجد كلام والجميع يهرب منه ؛أتت ابنة أخي الصغيرة تحمل قدحا و إناء ماء لا أعرف هل الماء متسخ ام الكأس قديمة ..وترتدي ملابس الفقراء ..الفقراء جدا الشهر الفائت فقط بعثت لهم ألف دولار لو أنه ابتاع شيئاً بسيطا لابنته وجنبها نظرات الشفقة أو اشترى أوانٍ جديدة... كانت عيناها أصدق قلب مفتوح،،
:أتريد ماءً ياعمي؟
لا ياروح عمك أعطِ لجدك.. أخذ الكأس منها ولم يشرب منه شيئا.. يضع اصبعه على حافة الكاس ويقلبها ..فبادرت.
: هل تخفون عني شيئاً؟ أتريدون مساعدة؟ أهناك شيء لا أعرفه؟.. قلتها ببرود أنت فرد أخي بسرعة.. والله لا نريد شيئاً أنا عارضتهم سابقا لأخذ أموالك ورفضت درهما واحدا و لكن أحدا لم يسمعني هم أكثرية واتفقوا .
بدا عمي كأنه سيتكلم و لكن دخل اثنان من إخوتي وصهري بعد السلام قاما بدعوتي إلى الغداء ..فأغلق الموضوع تماما وخاصة أن القادمين مستبشرون وكأنهم سينالون مباركتي رمقت أخي وعمي قبل المغادره رايتهم يتهامسون ثم أطرق عمي رأسه..أرضا وشغل نفسه بمسبحته .
أخي الأوسط يضع كفه على كتفي ويشرح لي عن أركان وزوايا قصره وحديقته الجميلة و وبوابةالسراي التي تشبه اسوار بابل وبيت الحارس الأجمل بمائة مرة من بيت عادل كأنني انتقلت من خرابة إلى قلعة.. كل شيء أنيق و خادمة وطقوس الطعام وفق الاتيكيت وزوجه أخي التي تنظر لي بريبة ،عيناها تقول لمَ عدت ، حتى أنها رفضت لأبنائها البقاء جانبي فألقوا السلام وتركوني،، جدران نظيفة وقلوب ملؤها الدخان.
ثم وسط كل هذا كان أخي يحكي لي عن نجاحه و كيف حقق ثروته ويلوح لي بساعته التي تحمل ماركة عالمية وجاءت وسط هذه صورة أخي عادل المسكين الذي لم يشترِ حتى سجاداً أنيقاً لغرفة الضيوف ما الذي حصل لإخوتي ولماذا قالت أختي أم حسن ماتت أمه وهي غاضبة عليهم..هل لأنهم رفضوا مساعدة عادل خاصة وأن عياله كثر!. ثم تحولت وسطه أملاك أخي الثاني في اليوم التالي وقامت أخواتي كذلك بدعوتي للسهر في أماكن راقية وزرت بيوتهن الفارهة،، و أزواجهن الذين كرروا على مسامعي من أين أتت ثروتهم... وكأنه يهمني !! صحيح أنهم أبناء عمتي ولكن ماشأني بأموالهم...وأنا القادم من بلاد كالنعيم وسط أوروبا لا أرتاح ولا أطمئن
كبيت اهلي الذي يسكن فيه عادل وأسرته أو أذهب مساءً لأسهر مع أم حسن وعائلتها المرحة الذين تتهلل وجوههم برؤيتي..
مرّ اسبوع وأنا انتقل من بيت أخ لبيت أخت من بيت عمي لبيت صهر ،كل من يحاول زيارتي من أصدقائي القدامى كنت أدعوهم لأحد المطاعم والمقاهي حتى نبهني أحدهم: ألم تقل مرة في إحدى رسائلك أن إخوتك اشتروا لك بيتاً بالأموال التي كنت ترسلها وقاموا بتجهيزها لك وستقيم عرسك فيها إن أتيت..
: نعم صحيح للآن لم أسألهم وهم لم يأخذوني لأراها ربما هم مشغولون أو لم يكتمل إعمارها ..أو نسوا الأمر.
كانوا يرسلون لي صورا بدت لي تشبه بيت أخي وفخامته..فرد علي :ربما بناها بنفس التصميم
فقلت: ربما الله العالم..ولكن قلبي اوغزني أناعلى يقين أن ثروتهم جاءت من أموالي وهنيئا لهم ..لكن كيف تركوا عادل هكذا ولماذا لم يحدثوني عن البيت المعد لي أو المشروع المفترض أن اسمي معهم بالعقد
: لم نسمع أخبار اأهلك ،فقدابتعدنا عن الحي منذ سنوات انتقلنا لبيت آخر..
: تمام.. غدا تأتي أنت وباقي الأصدقاء لحفلة شواء في السراي الجديد اليوم سآخذ منهم العنوان وأذهب لأرتب المكان غدا إن شاء الله.
في المساء حدثت عادل عن الذهاب معي لبيتي الجديد ..وأخبرته أن تبقى مفاتيحه لديه لينتقل إليه بدل البقاء هنا في الحي القديم فهناك بيت كبير وهو لديه عائلة كبيرة..
نفث الدخان بحسرة وعقد حاجبيه ولم يتلعثم بالحديث فقال:
لاأعرف من اين ابدأ.. أي قصرٍ ياعزيز؟ أنت لاتملك شيئاً هنا.. صمت..ثم أكمل
كل أموالك التي كنت ترسلها عن طريق إخوتك تقاسموها بينهم لم يتوقع أحد أن تعود يوما للديار أو تفضل أن يكون لك بيتاً مستقلاً،، لازلت صامتا ..
قصور إخوتك وأخواتك هي بأموالك ولكنهم رفضوا أن يضعوها باسمك فقاموا بنقل العقارات بأسماء زوجاتهم وأخواتك الطيبات بأسماء ازواجهن.. كي لا تطالبهن لاحقا بشيء. شعرت بحراره قلبي تصفع عيني.. ولا زلت صامتا.
ثم دمعت عيناه واختنق قال أمي ماتت مقهورة من فعلتهم كانت تقول
:ضاع تعبك يا عزيز وهدرت سنين غربتك وشقاك...
ارتعش جسدي.. فمسكته من رقبته كدت أجره للأرض تناسيت فارق العمر بيننا..فقلت
: وأنت ماذا فعلت يا أخي الكبير !؟قلتها مؤنبا فقال: لا شيء.. لم يستمعوا إلي ..ولم يعطِني أحد عنوانك كانوا كل مرة يعطونني رقماً غير صحيح حتى ظننت أنك أنت الذي لا ترغب بمراسلتي
فانشغلت بتعب الحياة ..أتتصور قبل عدة أشهر طالبوني بحصصهم من بيت والدي هذا الذي أسكن فيه.. ولو قمت ببيعه سأكون بالايجار مدى عمري. كانوا جميعا متفقين لأجل مصلحتهم هؤلاء إخوتك الذين لطالما أتعبوني بشجاراتهم فيما بينهم.. لم يتفقوا يوماً إلا في هذه المسالة .قطعوا صلتهم وأبناءهم بابنائي وكذلك عن أم حسن فهي أيضا رفضت أن تأخذ فلساً مما ترسله رغم وضعها البسيط الذي رأيته.فقلت بغضب
والآن؟؟...ردّ عليّ بعد أن وضع يديه على كتفي.
:الآن أنت لا تملك شيئاً من أموالك التي أرسلتها؛، البيوت الفارهة التي زرتها هي بيوتك كل الذي رأيته نعيمك.. كلمته بحال المصدوم :
أتزيد ناري بهذا الكلام أتود الآن أن اذهب لقتلهم أم رفع شكوى أم ماذا؟!
: لا والله لا أقصد لكنها الحقيقه ولكن إخوتك قالوا لي إنه سند هذا البيت و الأملاك التي تشتروها هي بأموالك، أخذها عمي منهم ليحفظها لك .. و أنا أثق فقد كان قلقا بشأنك و قام ببعض الوساطات القضائية واستطاع أخذ سندات الأملاك منهم لكن تعرف ان ابنتي عمك زوجتا أخويك استطاعتا ان تبدلا آراء عمك وحرصه لصالحهن.. فأخذتا السندات وزورتا كل شيء ربما لم يتوقع من بناته أن يقمن بإقناع أزواجهن وقلب الأمور لصالحهن قال انه لا يعلم صدقني عندما عرف بالأمر تأذى كثيرا بل تعرض لأزمة قلبية شعر أنه شخص غير مؤهل للأمانة وأن ابنتيه خدعتاه... وكذلك تم تمويه أخويك إذ لم يكن في نيتهم نقل أموالك لزوجاتهم ...فقلت
: وهل علي أن أبقى معكم بعد هذا ؟وأخواتي كيف يفعلن ذلك بأخيهن الصغير كيف نقلن أملاكي إلى أزواجهن ..قالت عمتك لابأس بأزواجهن هم أبناء عمته وليسوا غرباء
:اهكذا تقيسون الأمور
: نعم هكذا تقاس...هكذا تقاس عندما يتعلق الأمر بالأموال..
لم يخطر في ذهني سوى ساعات العمل الشاق التي كنت أقضيها... وسنين هدر صحتي ولم أعش بمقتضى العمر...لأجلكم.. و حرمت نفسي كثيرا من الأمور . فأعود لأجدني في البئر ولا من قافلة تمر ولا من عزيز يعيد ترتيب مشاهد الحياة ..أنا والذئب فقط شعرت أني كبرت ..كبرت كثيرا.. اليوم فقدت أبي وأمي كبرت فجأه كل كلمة ينطقها كانت روحي تهوي للأرض وألتقطها مرارا حتى قال ..(نعم هكذا تقاس الأمور عندما يتعلق الأمر بالأموال)
حينها لم أسترد روحي التي هوت ولكنّني تحولت في خلال ساعة إلى شخص آخر لا ينتمي للقديم حملت إحدى حقائبي.. الصغيرة منها.. وتركت باقي أشيائي لأبناء أخي عادل ..أتيت لأرى ثماني إخوة وعدت وبقلبي اثنان فقط .. غادرتهم غير مودّعٍ، ولا معاتب لإخوتي
فلا تجدي( لماذا )هنا شيئا.
أنا الآن بميلاد جديد شخص تائه ..لاشعور.. لاأهل..ولاانتماء
عدت إلى المهجر ليس كما خرجت . عدت كما العائد من حرب خسر فيها كل شيء إلاجسده...
اغتربت ..بين اخوتي وموطني
فعلت بي كلمات عادل كما فعل قميص يوسف بيعقوب
(هكذا تقاس الأمور.)
تعليقات
إرسال تعليق